فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إذ الْمُجْرمُونَ نَاكسُوا رُءُسهم عند رَبّهمُ} أي عند محاسبة ربهم وفيه أربعة أوجه:
أحدها: من الغم، قاله ابن عيسى.
الثاني: من الذل، قاله ابن شجرة.
الثالث: من الحياء، حكاه النقاش.
الرابع: من الندم، قاله يحيى بن سلام.
{رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمعْنَا} فيه وجهان:
أحدهما: أبصرنا صدق وعيدك وسمعنا تصديق رسلك، قاله ابن عيسى.
الثاني: أبصرنا معاصينا وسمعنا ما قيل فينا، قال قتادة، أبصروا حين لم ينفعهم البصر وسمعوا حين لم ينفعهم السمع.
{فَارْجعْنَا نَعْمَلْ صَالحًا إنَّا مُوقنُونَ} أي ارجعنا إلى الدنيا نعمل فيها صالحًا.
{إنَّا مُوقنُونَ} فيه وجهان:
أحدهما: مصدقون بالبعث، قاله النقاش.
الثاني: مصدقون بالذي أتي به محمد صلى الله عليه وسلم أنه حق، قاله يحيى بن سلام.
قال سفيان: فأكذبهم الله فقال: {وَلَو رُدُّوا لَعَادُوا لمَا نُهُوا عَنهُ} [الأنعام: 28] الآية.
قوله تعالى: {وَلَوْ شئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍٍ هُدَاهَا} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: هدايتها للإيمان.
الثاني: للجنة.
الثالث: هدايتها في الرجوع إلى الدنيا لأنهم سألوا الرجعة ليؤمنوا.
{وَلَكنْ حَقَّ الْقَولُ منّي} فيه وجهان:
أحدهما: معناه سبق القول مني، قاله الكلبي ويحيى بن سلام.
الثاني: وجب القول مني، قاله السدي كما قال كثير:
فإن تكن العتبى فأهلًا ومَرْحبًا ** وحقت لها العتبى لدنيا وقلّت

{لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ من الْجنَّة وَالنَّاس} يعني من عصاه من الجنة والناس. وفي الجنة قولان:
أحدهما: أنه الجن، قاله ابن كامل.
الثاني: أنهم الملائكة، رواه السدي عن عكرمة، وهذا التأويل معلول لأن الملائكة لا يعصون الله فيعذبون. وسموا جنة لاجتنانهم عن الأبصار ومنه قول زيد بن عمرو:
عزلت الجن والجنان عني ** كذلك يفعل الجلد الصبور

قوله: {فَذُوقُوا بمَا نَسيتُمْ لقَاءَ يَوْمكُمْ هَذَا} فيه وجهان:
أحدهما: فذوقوا عذابي بما تركتم أمري، قال الضحاك.
الثاني: فذوقوا العذاب بما تركتم الإيمان بالبعث في هذا اليوم، قاله يحيى بن سلام.
{إنَّا نَسينَاكُمْ} فيه وجهان:
أحدهما: إنا تركناكم من الخير، قاله السدي.
الثاني: إنا تركناكم في العذاب، قاله مجاهد.
{وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْد} وهو الدائم الذي لا انقطاع له.
{بمَ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} يعني في الدنيا من المعاصي، وقد يعبر بالذوق عما يطرأ على النفس وإن لم يكن مطعومًا لإحساسها به كإحساسها بذوق الطعام، قال ابن أبي ربيعة:
فذُقْ هجرها إن كنت تزعم أنه ** رشاد ألا يا رب ما كذب الزعم

. اهـ.

.قال ابن عطية:

ثم أمر تعالى نبيه أن يخبرهم بجملة الحال غير مفصلة، فبدأ بالإخبار من وقت يفقد روح الإنسان إلى الوقت الذي يعود فيه إلى ربه فجمع الغايتين الأولى والآخرة، و{يتوفاكم} معناه يستوفيكم.
ومنه قال الشاعر: الرجز:
أزيني الأردم ليسوا من أحد ** ولا توفيهم قريش في العدد

و{ملك الموت} اسمه عزرائيل وتصرفه كله بأمر الله وبخلقه واختراعه وروي في الحديث أن البهائم كلها يتوفى الله روحها دون ملك.
قال الفقيه الإمام القاضي: كأن يعدم حياتها، وكذلك الأمر في بني آدم إلا أنه نوع شرف بتصرف ملك وملائكة معه في قبض أرواحهم، وكذلك أيضًا غلظ العذاب على الكافرين بذلك، وروي عن مجاهد: أن الدنيا بين يدي ملك الموت كالطست بين يدي الإنسان يأخذ من حيث أمر.
{وَلَوْ تَرَى إذ الْمُجْرمُونَ نَاكسُو رُءُوسهمْ عنْدَ رَبّهمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمعْنَا}.
قوله تعالى: {لو ترى} تعجيب لمحمد وأمته من حال الكفرة وما حل بهم، وجواب {لو} محذوف لأن حذفه أهول إذ يترك الإنسان فيه مع أقصى تخيله، و{المجرمون} هم الكافرون بدليل التوعد بالنار وبدليل قولهم {إنا موقنون} أي أنهم كانوا في الدنيا غير موقنين، وتنكيس الرءوس هو من الذل واليأس والهم بحلول العذاب وتعلق نفوسهم بالرجعة إلى الدنيا، وفي القول محذوف تقديره يقولون {ربنا} وقولهم {أبصرنا وسمعنا} أي ما كنا نخبر به في الدنيا فكنا مكذبين به، ثم طلبوا الرجعة حين لا ينفع ذلك، ثم أخبر تعالى عن نفسه أنه لو شاء لهدى الناس أجمعين بأن يلطف بهم لطفًا يؤمنون به ويخترع الإيمان في نفوسهم، هذا مذهب أهل السنة، وقال بعض المفسرين تعرض عليم آية يضطرهم بها إلى الإيمان.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا قول بعض المعتزلة، إلا أن من أشرنا إليه من المفسرين لم يقدر قدر القول ولا مغزاه ولذلك حكاه، والذي يقود المعتزلة إلى هذه المقالة أنهم يرون أن من يقدر على اللطف بإنسان حتى يؤمن ولا يفعل فإن ذلك ليس من الحكمة ولا من الأمر المستقيم، والكلام على هذه المسألة يطول وله تواليفه، و{الجنة} الشياطين، وقوله: {فذوقوا} بمعنى يقال لهم ذوقوا، و{نسيتم} معناه تركتم، قاله ابن عباس وغيره، وفي الكلام حذف مضاف تقديره عمل أو عدة ونحوه، وقوله: {إنا نسيناكم} سمى العقوبة باسم الذنب، وقوله: {بما كنتم تعملون} أي بتكسبكم الآثام. اهـ.

.قال القرطبي:

{قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْت الَّذي وُكّلَ بكُمْ ثُمَّ إلَى رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)} فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت} لما ذكر استبعادهم للبعث ذكر توفّيهم وأنه يعيدهم.
{يَتَوَفَّاكُم} من توفى العدد والشيء إذا استوفاه وقبضه جميعًا.
يقال: توفاه الله أي استوفى روحه ثم قبضه.
وتوفيت مالي من فلان أي استوفيته.
{مَّلَكُ الموت} واسمه عزرائيل ومعناه عبد الله؛ كما تقدّم في البقرة.
وتصرّفه كلّه بأمر الله تعالى وبخلقه واختراعه.
وروي في الحديث: «أن البهائم كلّها يتوفّى الله أرواحها دون مَلَك الموت» كأنه يعدم حياتها؛ ذكره ابن عطية.
قلت: وقد روي خلافه، وأن مَلَك الموت يتوفّى أرواح جميع الخلائق حتى البرغوث والبعوضة.
روى جعفر بن محمد عن أبيه قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مَلَك الموت عند رأس رجل من الأنصار، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ارفق بصاحبي فإنه مؤمن» فقال مَلَك الموت عليه السلام: يا محمد، طب نفسًا وقَرّ عَيْنًا فإني بكل مؤمن رفيق واعلم أن ما من أهل بيت مَدَر ولا شعر في بَر ولا بحر إلا وأنا أتصفحهم في كل يوم خمس مرات حتى لأنا أعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم والله يا محمد لو أني أردت أن أقبض روح بعوضة ما قدرت على ذلك حتى يكون الله هو الآمر بقبضها قال جعفر بن عليّ: بلغني أنه يتصفّحهم عند مواقيت الصلوات؛ ذكره الماورديّ.
وذكر الخطيب أبو بكر أحمد بن عليّ بن ثابت البغداديّ قال: حدّثني أبو محمد الحسن بن محمد الخلال قال: حدّثنا أبو محمد عبد الله بن عثمان الصفّار قال حدّثنا أبو بكر حامد المصري قال حدّثنا يحيى بن أيوب العلاف قال حدثنا سليمان بن مُهير الكلابيّ قال: حضرت مالك بن أنس رضي الله عنه فأتاه رجل فسأله: أبا عبد الله، البراغيث أمَلَك الموت يقبض أرواحها؟ قال: فأطرق مالك طويلًا ثم قال: ألها أنفس؟ قال: نعم.
قال: مَلَك الموت يقبض أرواحها؛ {الله يَتَوَفَّى الأنفس حينَ موْتهَا} [الزمر: 42].
قال ابن عطية بعد ذكره الحديث: وكذلك الأمر في بني آدم، إلا أنه نوعٌ شُرّف بتصرف مَلَك وملائكة معه في قبض أرواحهم.
فخلق الله تعالى مَلَك الموت وخلق على يديه قبض الأرواح، واستلالها من الأجسام وإخراجها منها.
وخلق الله تعالى جندًا يكونون معه يعملون عمله بأمره؛ فقال تعالى: {وَلَوْ ترى إذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُوا الملائكة} [الأنفال: 50]، وقال تعالى: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} وقد مضى هذا المعنى في الأنعام.
والبارىء خالق الكل، الفاعل حقيقة لكل فعل؛ قال الله تعالى: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حينَ موْتهَا والتي لَمْ تَمُتْ في مَنَامهَا}.
{الذي خَلَقَ الموت والحياة} [الملك: 2].
{يُحْيي وَيُميتُ}.
فملك الموت يقبض والأعوان يعالجون والله تعالى يُزْهق الروح.
وهذا هو الجمع بين الآي والأحاديث؛ لكنه لما كان مَلَك الموت متولّي ذلك بالوساطة والمباشرة أضيف التوفّي إليه كما أضيف الخلق للملك؛ كما تقدّم في الحج.
وروي عن مجاهد أن الدنيا بين يدي مَلَك الموت كالطَّست بين يدي الإنسان يأخذ من حيث شاء.
وقد روي هذا المعنى مرفوعًا، وقد ذكرناه في كتاب التذكرة.
وروي أن مَلَك الموت لما وكّله الله تعالى بقبض الأرواح قال: ربّ جعلتني أُذكر بسوء ويشتمني بنو آدم.
فقال الله تعالى له: إني أجعل للموت عللًا وأسبابًا من الأمراض والأسقام ينسبون الموت إليها فلا يذكرك أحد إلا بخير وقد ذكرناه في التذكرة مستوفًى وقد ذكرنا أنه يدعو الأرواح فتجيئه ويقبضها، ثم يسلمها إلى ملائكة الرحمة أو العذاب بما فيه شفاء لمن أراد الوقوف على ذلك.
الثانية: استدلّ بهذه الآية بعض العلماء على جواز الوكالة من قوله: {وُكّلَ بكُمْ} أي بقبض الأرواح.
قال ابن العربيّ: وهذا أخذ من لفظه لا من معناه، ولو اطّرد ذلك لقلنا في قوله تعالى: {قُلْ يا أيها الناس إنّي رَسُولُ الله إلَيْكُمْ جَميعًا} [الأعراف: 158]: إنها نيابة عن الله تبارك وتعالى ووكالة في تبليغ رسالته، ولقلنا أيضًا في قوله تبارك وتعالى: {وَآتُوا الزكاة} [البقرة: 43] إنه وكالة؛ فإن الله تعالى ضمن الرزق لكلّ دابة وخصّ الأغنياء بالأغذية وأوعز عليهم بأن رزق الفقراء عندهم، وأمر بتسليمه إليهم مقدارًا معلومًا في وقت معلوم، دبّره بعلمه، وأنفذه من حكمه، وقدّره بحكمته.
والأحكام لا تتعلق بالألفاظ إلا أن ترد على موضوعاتها الأصلية في مقاصدها المطلوبة، فإن ظهرت في غير مقصدها لم تعلّق عليها.
ألا ترى أن البيع والشراء معلوم اللفظ والمعنى، وقد قال تعالى: {إنَّ الله اشترى منَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بأَنَّ لَهُمُ الجنة} ولا يقال: هذه الآية دليل على جواز مبايعة السيد لعبده؛ لأن المقصدَيْن مختلفان.
أما إنه إذا لم يكن بدّ من المعاني فيقال: إن هذه الآية دليل على أن للقاضي أن يستنيب من يأخذ الحق ممن هو عليه قسرًا دون أن يكون له في ذلك فعل، أو يرتبط به رضًا إذا وجد ذلك.
قوله تعالى: {وَلَوْ ترى إذ المجرمون نَاكسُوا رُءُوسهمْ عندَ رَبّهمْ} ابتداء وخبر.
قال الزجاج: والمخاطبة للنبيّ صلى الله عليه وسلم مخاطبةٌ لأمته.
والمعنى: ولو ترى يا محمد منكري البعث يوم القيامة لرأيت العجب.
ومذهب أبي العباس غير هذا، وأن يكون المعنى: يا محمد، قل للمجرم ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم لندمت على ما كان منك.
{نَاكسُو رُءُوسهمْ} أي من الندم والخزي والحزن والذلّ والغم.
{عنْدَ رَبّهمْ} أي عند محاسبة ربهم وجزاء أعمالهم.
{رَبَّنَا} أي يقولون ربنا.
{أَبْصَرْنَا} أي أبصرنا ما كنا نكذب.
{وَسَمعْنَا} ما كنا ننكر.
وقيل: {أَبْصَرْنَا} صدق وعيدك.
{وَسَمعْنَا} تصديق رسلك.
أَبْصَرُوا حين لا ينفعهم البصر، وسمعوا حين لا ينفعهم السمع.
{فَارْجعْنَا} أي إلى الدنيا.
{نَعْمَلْ صَالحًا إنَّا مُوقنُونَ} أي مصدقون بالبعث؛ قاله النقاش.
وقيل: مصدقون بالذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أنه حق؛ قاله يحيى بن سلام.
قال سفيان الثوريّ: فأكذبهم الله تعالى فقال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لمَا نُهُوا عَنْهُ وَإنَّهُمْ لَكَاذبُونَ} [الأنعام: 28].
وقيل: معنى {إنَّا مُوقنُونَ} أي قد زالت عنا الشكوك الآن؛ وكانوا يسمعون ويبصرون في الدنيا، ولكن لم يكونوا يتدبرون، وكانوا كمن لا يبصر ولا يسمع، فلما تنبهوا في الآخرة صاروا حينئذٍ كأنهم سمعوا وأبصروا.
وقيل: أي ربنا لك الحجة، فقد أبصرنا رسلك وعجائب خلقك في الدنيا، وسمعنا كلامهم فلا حجة لنا.
فهذا اعتراف منهم، ثم طلبوا أن يردّوا إلى الدنيا ليؤمنوا.